TRT عربي
يتكرر اسم الملكة المصرية كليوباترا مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العربية والعالمية بعد الجدل الذي أشعله عرض الإعلان الترويجي للمسلسل الوثائقي "الملكة كليوباترا" (Queen Cleopatra) الذي سيُعرض على منصة نتفليكس في العاشر من مايو/أيار.
الجدل جاء في مصر على خلفية اختيار الممثلة البريطانية آديل جيمس ذات البشرة السوداء لأداء دور الملكة الأسطورية، الأمر الذي قوبل برفضٍ واسع، إذ تنحدر "كليوباترا" من أسرة بطليموس المقدونية، مما يشير إلى عدم صحّة ادعاءات منتجي العمل بأنها سوداء البشرة، وفق آراء الخبراء المصريين.
وعبر بيان صادر عن وزارة السياحة والآثار المصرية في 28 أبريل/نيسان، أكد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري أن "ظهور البطلة بهذه الهيئة يُعَدّ تزييفاً للتاريخ المصري ومغالطة تاريخية صارخة، لا سيما أن الفيلم مصنف فيلماً وثائقياً لا عملاً درامياً، الأمر الذي يحتم على القائمين على صناعته ضرورة تحري الدقة والاستناد إلى الحقائق التاريخية والعلمية بما يضمن عدم تزييف تاريخ وحضارات الشعوب".
وأضاف: "كان يجب الرجوع إلى متخصصي علم الآثار والأنثروبولوجيا عند صناعة مثل هذه النوعية من الأفلام الوثائقية والتاريخية، التي سوف تظل شاهدة على حضارات وتاريخ الأمم".
ردود فعل غاضبة ودعاوى قضائية
منذ إصدار المقطع الدعائي جرى التوقيع على عريضة عبر الإنترنت جمعت أكثر من 70 ألف توقيع تتهم منتجي العمل بتزيف التاريخ.
وقال مدشنو العريضة إن "المركزية الإفريقية (Afrocentrism) هي فكرة زائفة تزعم أن الحضارة المصرية أصلها إفريقي"، وإن ذلك "سرقة للتاريخ المصري". وجرى تداول العريضة على نطاق واسع في صفحات التواصل الاجتماعي.
لكن بالعودة إلى موقع "Change" المستخدَم لجمع التوقيعات لم تعُد العريضة الأصلية موجودة، إذ حذف الموقع الصفحة الخاصة بها، إلّا أن معارضي العمل أنشؤوا على الموقع عدداً من العرائض الأخرى المطالِبة بإلغاء عرضه.
واتجه عدد من المصريين إلى إعطاء تقييمات منخفضة لمنصة نتفليكس على المتاجر الإلكترونية وإلغاء الاشتراكات فيها، باعتباره نوعاً من الاعتراض على المسلسل، إضافة إلى نقاشات مطوّلة واستنكار على مواقع التواصل من قِبل ناشطين وخبراء آثار في محاولة لتصحيح المعلومات التاريخية.
ولم يقتصر الأمر على الاستنكارات، بل تقدّم المحامي المصري محمود السمري في 16 أبريل/نيسان ببلاغ للنائب العام لإغلاق المنصة واتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد القائمين على هذا العمل وضد إدارة المنصة، والتحقيق معهم، وحجب بثها في مصر.
وتقدمت النائبة في مجلس النواب المصري صبورة السيد بطلب إلى وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لحظر المنصة، معتبرةً أن "الإعلان الترويجي للفيلم الوثائقي تسبب في غضب كثير من المصريين بسبب تجسيد الفيلم للمصريين القدماء على أنهم من أصحاب البشرة السمراء، فيما أكد علماء الآثار أن الملكة كليوباترا من أصول مقدونية، بما يعني أنها لم تكن سمراء".
وفي مناظرة هي الأبرز، ظهر الإعلامي الكوميدي المصري باسم يوسف مع الإعلامي بيرس مورغان على قناة "TalkTV" البريطانية، قال يوسف فيها إن "المسألة لا تتعلق بمسألة أبيض أو أسود، بل إنها حملة مستمرة من الاستيلاء على الحضارة المصرية عبر تزوير التاريخ من قِبل ما يُسمى بحركة (الأفروسنتريزم)".
وتابع: "الحركة بدأت القرن الماضي بهدف جيد لتعليم الأمريكيين من أصول إفريقية حول التاريخ الغني لغرب إفريقيا مثل الإمبراطورية العظمى لغانا وبنين ومالي، لكن مع ذلك تجد أشخاصاً مثل كيفن هارت يدّعي أنّ أجداده بنَوا الأهرامات، أنا آسف، فأجدادك لديهم حضارة رائعة في غرب إفريقيا".
واعترض يوسف أيضاً على طبيعة العمل المُنتَج باعتباره ليس عملاً تخيلياً بإمكان الممثلين فيه تجسيد أي شخصية، بل العمل مُصنَّف دراما وثائقية، مشدداً على أن "هوليوود تسرق تاريخ الشعب".
الممثلة البريطانية آديل جيمس خرجت عن صمتها إزاء الكمّ الهائل من التعليقات على "تويتر" التي تنتقدها، ونشرت تغريدة تقول: "لن يجري التسامح مع هذا النوع من السلوك في حسابي (بإشارة إلى الشتائم)، سيجري حظرك دون تردد!.. إذا كنت لا تحب الممثلين فلا تشاهد المسلسل، أو شارك في رأي (خبير) مختلف عن رأيك".
وفي هذا الصدد دافعت أيضاً مخرجة العمل تينا غرافي عن الممثلة خلال حوار مع مجلة "فارايتي" (Variety) بأنه "بعد كثير من اختبارات الأداء التي لا حصر لها، وجدنا في آديل جيمس ممثلة يمكنها نقل، ليس فقط جمال كليوباترا، ولكن أيضًا قوّتها، ما يمكن أن يؤكده المؤرخون هو أنه من المرجح أن تبدو كليوباترا مثل أديل أكثر مما فعلت إليزابيث تايلور".
العمل مُحابٍ لتيار الـ"الأفروسنتريزم"
تردد مصطلح حركة "الأفروسنتريزم" (المركزية الإفريقية) في خضم الجدل حول المسلسل، وتُعرف الحركة بأنها "حركة ثقافية وسياسية يَعتبر أتباعها الأمريكيون من أصل إفريقي أنفسهم وجميع السود الآخرين أن نظرتهم إلى العالم يجب أن تعكس القيم الإفريقية التقليدية بشكل إيجابي، وتسلّط الضوء على هوية ومساهمات الثقافات الإفريقية في تاريخ العالم".
صاغ المصطلح في الثمانينيات الباحث والناشط الأمريكي من أصل إفريقي موليفي أسانتي.
وتجادل "الأفروسنتريزم" أنه لقرون عديدة هيمن الأوروبيون على الأفارقة وغيرهم من خلال العبودية والاستعمار، ولهذا السبب يحتاج المنحدرون من أصل إفريقي إلى تنمية تقديرهم لإنجازات الحضارات الإفريقية.
وتزعم الحركة أن التاريخ والثقافة الإفريقية بدآ في مصر القديمة التي كانت مهد الحضارة العالمية حتى سُرقت أفكارها وتقنياتها وحجب الأوروبيون سجلها الحافل بالإنجازات.
وفي هذا السياق قالت جادا بينكيت سميث، منتجة العمل والقائمة عليه، والمعروفة بانحيازها ودفاعها عن الـ"الأفروسنتريزم": "لا نتمكن في كثير من الأحيان من رؤية أو سماع قصص عن الملكات السود، وكان ذلك مهماً حقاً بالنسبة إليَّ وإلى ابنتي وإلى أبناء مجتمعي ليتمكنوا من معرفة تلك القصص"، وذلك في حديثها إلى موقع "Tudum".
وارتبط استخدام مصطلح "الأفروسنتريزم" مع موجة انتقادات العمل، إذ يرى وزير الآثار المصري الأسبق وعالم الآثار زاهي حوّاس أنه "محاولة جذب أسماء تاريخية لامعة مثل الملكة كليوباترا بهدف الترويج أن الحضارة المصرية سوداء، هذا الكلام ليس له أي أساس من الصحة إطلاقًا"، وذلك وفق تصريحه لموقع "المصري اليوم".
هل حاولت نتفليكس تَعمُّد التضليل؟
الناقد الفني المصري أمجد جمال قال في حديث لموقع TRT عربي إنّ سبب الجدل في المقام الأول هو إعطاء الممثلة آديل جيمس دور كليوباترا، معتبراً أنه اختيار غير موفق بالنظر إلى اختلاف طبيعتها العرقية عن الملكة المصرية التي كانت تنتمي إلى أصول مقدونية هلنستية (يونانية)، فالمفترض أن تكون ملامحها أقرب إلى أشكال البحر المتوسط وجنوب أوروبا، لكن العمل أظهرها أنها كانت تنتمي إلى العرق الإفريقي ذي البشرة السمراء.
وأضاف جمال أن "إعطاء ممثلين من أعراق مختلفة الأدوار يحصل عادةً في هوليوود، ويجري التعامل مع الموضوع بحسن نية"، إلّا أن المشكلة الأساسية التي خلقت الجدل وفق رأيه هي "طرح العمل نفسه بأن كليوباترا كانت تنتمي إلى العرق الأسود، وهو ما ظهر على لسان السيدة في الإعلان الترويجي الذي قالت فيه إنها تتجاهل ما أخبرتها به المعلّمة في المدرسة عن أصول كليوباترا،" وبهذا حسبما يؤكد "لا يمكننا اعتبار ما حصل حُسن نيّة، بل هنالك وفق مزاعمهم نوع من التصويب العرقي لشخصيات تاريخية ومحاولة احتسابهم على أعراق أخرى".
ولفت جمال إلى أنه لا يمكن تجاهل الدلائل الموجودة وفصلها عن سياق حركة "الأفروسنتريزم" التي تزعم أن العرق الإفريقي أسَّس الحضارة المصرية وأنها كانت "حضارة سوداء"، رغم أن هنالك حضارات عظيمة أسسها الأفارقة بالفعل في غرب ووسط إفريقيا ويجب أن يفتخروا بها بدلاً من نَسَبِهم حضارات أخرى إلى أنفسهم.
ولا يعتقد جمال أن نتفليكس سعت عمداً للتضليل بهذا العمل، إذ عادةً تشتري المنصة الأفلام والأشياء الرائجة من منتجين آخرين في ما يمكن اعتباره عملية استحواذ، ولا تسعى للاصطدام بأي أجندة، كما لم تتوقع نتفليكس رد الفعل العنيف من الجمهور، وبالتالي نتفليكس أخذت معظم الضربات والدعاية السلبية.
وأشار إلى أن الغضب الذي حدث في مصر على مستوى شعبي وشخصيات عامة وأطراف حكومية هو غضب مشروع، فـ"الأدلة التاريخية لا تؤيد هذه الادعاءات، وهو رد فعل على محاولة السطوة على ثقافة وحضارة الآخرين، وهو بسبب سوء النية الواضح من منتجي العمل أنفسهم"، وفق جمال.
وحول أثر تشويه الحقائق التاريخية في الدراما والسينما في الثقافة المجتمعية للأجيال الجديدة، يرى الناقد أن الموضوع ليس مجرد فيلم واحد، بل هناك تيار كامل يذيع باستمرار على صفحات الإنترنت وأفلام يجري إنتاجها تأخذ ذات الطابع، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية، إذ يجب الاستناد إلى المراجع التاريخية لمواجهة المغالطات.